الأدب الحساني

سيديا ولد هدار.. سيّد الشعراء وإمام العاشقين

أحمد سيدي

سأل الأميرُ أحمد ولد الديد، الأديبَ الكبير مْحمد ولد هدار، عن أكثر أبناء أسرة أهل هدار تمكنا من ناصية الأدب، فقال في ردّ لا يخلو من طرافة: إذا استثنيتني فقل سيديا.

والحقيقة أن هذه الأسرة بدءا بوالدها مُحمد، الذي عاش بين عامي 1815 و1886م، وأبنائه الخمسة: المختار ومْحمد وباب وسيديا وعابدين، وانتهاء بأجيالها اللاحقة، ظلت محافظة على صلتها بالشعر الحساني، ولم يخلُ جيل من أجيالها من شعراء أفذاذ، أضافوا ألقا إلى ذلك الاسم الذي يكاد يكون مرادفا للأدب.

يقول الشيخ محمد سالم ولد عدود واصفا هذه الأسرة الشريفة: “عرفوا بالبراعة في المديح الشريف، والرثاء المنيف، والغزل العفيف، والنسيب الطريف، والتعريض الخفيف، والمساجلات الأدبية، والتوجيهات الهادفة، والنصائح السديدة، والفخر الصادق، ولم يعرف لهم مدح مسف، ولا غزل فاجر، ولا هجاء مقذع، ولا فخر أجوف”.

في هذه البيئية الشعرية بامتياز، ولد سيديا ولد مُحمد ولد هدار عام 1863م، ولم يحدْ عن طريق والده وإخوته، الذين سبقوه إلى مضمار الكلمة العذبة والفكرة البكر. يقول فيه المختار ولد هدار: “عَرف عنه معاصروه، والمتتبعون لسيرته، أنه كان شاعرا نبيلا، عفيف النفس صادق العاطفة، وكان ذا مروءة وإباء. برع في الغزل العفيف وفي النسيب، وكان معظم إنتاجه في (بت أسغير)”

ولعلّ عنايته بهذا “البتّ” تعطي صورة للعارف بعروض الشعر الحساني، عن مدى قدرته على تطويع المعاني، وبعثها في أي قالب موسيقي يراه مناسبا لذلك، فقد اتفق المهتمون بالشعر الحساني على أن بت أسغير، من أصعب بتوت لغن، وما أتقن خوض عبابه إلا القلة القليلة من الشعراء. وفي القطعة المعروفة التي يقول في مستهلها “ول أبن معلوم عهدُ” خير دليل على ترويض هذا البت.

ولئن كان المختار ولد هدار قد ذكر براعة سيديا في الغزل والنسيب، وهي براعة لها من شعره ما يؤكدها -وسأعود إلى ذلك لاحقا في هذا المقال- إلا أني أجده قد أبدع في مختلف أغراض الشعر الحساني، وتحديدا في المدح، حيث صنع لنفسه أسلوبا خاصا في هذا الغرض.

وتميز القاموس الذي يفصّل منه نصوصه على مقاس الإبداع والإبهار، بالبساطة والجمال، فلا تجده يعمد إلى التقعر اللغوي، ولا يستخدم غريب الألفاظ والمصطلحات، إنما يُلبس الفكرة المتعذرة، ثوب العبارة السهلة، ليترك القارئ في مواجهة جيش من الأسئلة الناجمة عن قدر كبير من الحيرة والدهشة.. وإليكم على سبيل المثال، هذه القطعة التي قالها في مدح الترجمان دودو سك:

ول ابـن مــولان عــاطـيـهْ ::: عن حق اعيال الله اعليه
حــق اعيـال الله امـوديـه ::: مــا خلكت فيهْ أتفلفيشه
وكـريـم ومـعـلـوم ونـزيــه ::: اياك انكشحت لحشيشه
ومرجع زين اعليه اتواسيه ::: أبلَ عن دونُ ترييشه
وامــع ذَ من فــعلْ إعـــــلِّ ::: واسـتطفيلَه واتـفـكريشَه
ظــامر وامـشنـكرْ .. بيه إلِ ::: غـابـنـتُ وذنُ في العِيشَه

لا أشكّ أنك عزيزي القارئ، أعدت قراءة النص أكثر من مرة قبل أن تتجاوزه، وهذا تحديدا ما وصفته بالدهشة التي تصيب قارئَ سيديا.. كيف وصل إلى هذه الفكرة “غابنت وذنُ في العيش؟” وكيف تمكّن بعد الوصول إليها من تقديمها لي ولك في هذا القالب البسيط؟ صدقا لست أدري.. ولكنها ليست المرة الأولى ولا الأخيرة.. تأمل معي قوله:

ارجيـل وفــارس خيل ::: مـانك مــن حد أذليل
وأعل المجروح تشيل ::: يحمد ســالم واتحــل
بالــرجل فــوك الخيل ::: وأهل البل فوك البل
ولا تعرف تعمل هاك ::: عــن لعــدُ ما تختـل
بيـك ألّ مــانك شــاك ::: عـــن لمــدافع تكتـل

ولو عدت معي عزيزي القارئ إلى النصين السابقين.. لوجدت أنهما شبه متطابقين من حيث الأسلوب.. فالسر في كل واحد منهما يكمن في المقطع الأخير.. وهو عبارة دائما عن كلمات معدودة، تحمل فكرة شديدة التكثيف، ولكنها في الوقت نفسه شديدة البساطة والوضوح. فتجد السر في النص الأول: “غابنت وذنُ في العيشَ”، وفي النص الثاني: “مانك شاك عن لمدافع تكتل”.

يقول الأديب الشاب زهير ولد هدار “سألت جدي المختار عن أجمل ما سمعه في حياته من الشعر الحساني.. فقال لي: بل قل من أحسن ما سمعت، وأنشدني طلعة سيديا التي يقول فيها:

جِهـــاد اكـبـيـر وكـد وجــد ::: هــاذُ فالــرزق ابلا مُفــاد
مــاهُ بالـجـــد ولا بــالــكــد ::: الــرزق ولاهُ بالجِــهــــاد
الرزق اڭبيل أصلُ محدود ::: ماهُ منڭوص ولا مـزيـود
ذاكوَّ تصـريف الـمـعـبــود ::: فالرزق اڭبيل اعلَ لعبـاد
ولسبــاب الِّ منـهَ مـعــدود ::: ستــة ويلَ عــادو لعــداد
سبعَة فاسباب الرزق إعود ::: الســـابع ول ابنُ المقـداد

كان سيديا وفيا لأسلوبه السهل الممتنع في هذه القطعة أيضا.. إذ أتى المقطع الأخير كما في سابقيه، بفكرة عميقة، وتعبير دقيق، ولغة سهلة، ومعنى واضح ” السابع ولد ابن المقداد”.

وفي حلقة من برنامج “حكاية شاعر” يؤكد زهير أن سيديا يتميز عن غيره بالحرص الشديد على إتقان كل نص يقوله، وهذا ما جعل نصوصه عموما، تتصف بقوة السبك، وجمال الأسلوب، وعمق الفكرة، على عكس غيره من الأدباء الذين تجد تفاوتا واضحا في جودة منتوجهم الأدبي.

ولو تجاوزنا غرض المدح، الذي أبدع فيه سيديا، وخلّد من خلاله أسماء وشخصيات مثل ول ابن المقداد، نجد قدرته على تحويل مشاهداته إلى صور شعرية عالية الوضوح، باديةً في قوله:

كان انشكت من باب الهم ::: لعظم ماهْ أنِّ متهم
واشكارُ من نشكت لعظم ::: عينيك وغمظت عينيك
اعل دمعه تتلاحك فم ::: أفعينيك امن النشكه ذيك
ذاك اعليك من الخمر احرم ::: وال ما بيح ذاك اعليك
من حد ايكد اعليه ايبيح ::: امن اهلك راعي ذاك اظريك
تازبَّ ولل زاد انبيح ::: لكليبه وللَ لبن ابريكْ

وتقودنا هذه القطعة إلى جانب آخر من شخصية هذا الشاعر الكبير.. أعني سيديا العاشق، الذي أفنى زهرة شبابه وشيخوخته وفاء لمحبوبته، تلك السيدة الكريمة التي تدعى منت حمّد، فقد فاضت شغاف قلبه حبا لها رغم زاوجها برجل آخر، أما هو فلم يفكر بالزواج من غيرها، وما استطاعت امرأة أخرى أن تدخل قلبه، لهذا كان يمضي أغلب وقته في اندر مع صديقه ولد ابن المقداد، متجاهلا كل عاذل، وغير متقبل لفكرة الاستسلام.. ظلّ صامدا إلى أن توفي زوج منت حمّد، فتزوجها بعد سنوات طويلة من الانتظار، تزوجها وقد تجاوزت سنّ اليأس، تلك السن التي يبلغها سيديا في حب منت حمّد إلى أن وافاه الأجل.. يقول رادا على بعض الناصحين له بالزواج من غيرها بحثا عن ولد يحمل اسمه.

يحد التقدير إلَ جاك ::: ابش ما كان امعاك ايّاك
تتارك من ش كان امعاك ::: ما فيه التقدير وتختيرْ
اتر ذاك الثان وايْراك ::: وتختير اعود افذاك الخير
اكد ايعود الخير افذاك ::: كاع الّ مقدر يغير
محدن كاع اقدر حدْ ::: تقدير وباحرْ فاش ادير
مالا تقديرَ فيهِ بعد ::: أولى ممّا فيهِ تقدير

ولعل هذه القطعة ومثيلاتها من شعر سيديا، تؤكد ما نقلناه من حديث المختار ولد هدار في بداية هذا المقال، عن براعة سيديا في الغزل.. وهي براعة واضحة في نصوصه التي تفيض رقة وعذوبة وجمالا. ولا غرابة في ذلك، فصدق العاطفة متى اجتمعت مع التمكن من ناصية الأدب، كانت النتيجة نصا في غاية الجمال.. يقول:

نعرفْ حـد افْشَطْنَه بَعَّدْ ::: عــنْ حَدْ اُفَـــوَّتْ مـــــارَ رَدْ
عَنُّ دَهْـــرْ اطْـوِيلْ اُلاَگَدْ ::: بيهْ الشَّطْــنَه وُالْبِعْــدْ اِجِيـهْ
يِتْوَحَّــشْ ذَاكْ الْحَدْ اَشـدْ ::: التُّحَــاشْ اُتِنْــظَـــــنْ اعْلِيهْ
يغيْرْ ألّ مَا نَعْـرَفْ حــدْ ::: يتْـــوَحَّـــشْ حَــدْ اِرَاعِ فِـيهْ

ويقول:

لعاد امنــادم مــاهُ فـم ::: من ذيك المــدَّه يالتفهـم
وانت واعدهم كول افيم ::: لمنادم فم أوخـــر منهم
عن واعـــدهم وانِّ كـم ::: من مره لاهي نوعـدهم
وإنِّ مـــزلت ألا مــنــزاد ::: واللِ وعـدنِ بعــد الهــم
ألا شـمـنــهــم وال زاد ::: حاكمن عنهم ش منهم

قبل سنوات قرأت للأديب الشاب، محمذ باب ولد أحمد يوره، تدوينة تناول فيها ظاهرة تتكرر في نصوص صاحبنا الغزلية، وهي عبارة “الداغي” ومردّ هذا التكرار هو قصة الحب التي أشرنا إليها قبل قليل.. فقد اعتاد سيديا أن يلعب “أصرند” مع محبوبته منت حمّد، واعتادت هي على خداعه في تلك اللعبة، وعلى عدم الالتزام بالقانون والقواعد، ورغم أن النفس لا تتقبل الخداع عادة، إلا أن نفس المحبّ لا تخضع للمعايير السائدة، لهذا كان خداع منت حمّد، أحبّ إلى نفس سيديا من التزام غيرها بمعايير اللعبة، وعبر عن ذلك في نصوص عديدة.. يقول:

نبغ نركب من عنــد انـدر ::: اجمل لي راصُ متحظـر
اننكب وكحت هاذ لبحــر ::: وانصيب العــون ألعــان
وانج مـن غــد التنعـمبـر ::: وانبرّك كبل الفطــــانه
عند اهل مْـحـمــد ول عمر ::: ويخلك سولان أسولانه
ويُعيــّط للشيـــخ اور ذاك ::: ويتخاصم هــو وغــلانه
وتنخط اصرند ايخلك هاك ::: لعــب اصــرند، أنــداغ آن

ويقول:

اداغيك افلبـــلاد ::: شــــايع ماه معتاد
وامتورك وجهك زاد ::: واكفــاك امــع ذاك
مايل ماه متكـــــاد ::: يخلِهْلك مـــدغاك
امتورك وجهك عـاد ::: امميل عاد اكفــاك

ونختم هذا المقال بتعلق سيديا بفعل زوجته هذا، لدرجة أنه عبر تعبيرا مؤلما عن شوقه لها، وافتقاده لكل صغيرة وكبيرة تربطه بها، عبر عن ذلك حين قال في رثائها أنه لن يجد بعدها من يخدعه في تلك اللعبة التي كانت شاهدة على قصة حبه الأول والأخير، قال ذلك في نص قصير جدا، ولكنه مليء بالعاطفة والشجن، وغالب الظنّ أنه كان يعلن فيه اعتزال هذه اللعبة إلى الأبد، إذ لم تعد لها أي قيمة في نظره.. فما قيمة الأشياء دون من نحب؟ وهل للمتعة معنى إذا ذهب من كنا نتشاركها معه؟ وهل نشعر بالسعادة إذا جفّ المبنع، ونضب المعين؟ يقول:

عاكب ذ ال لـرات عند ::: ملان ماه زين سعد
اتل مـــلاهي هـح بعـد ::: بتشنشـيحـــه يـُـلاغ
حــد، أللاهي زاد حـد ::: فصـــــرند اتل يداغ

بقلم/ أحمد سيدي

‫2 تعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى